ذات مره انتبه الفيلسوف الألماني العظيم ايمانويل كانت بأن جميع المواضيع والأشياء التي يمكن للعقل معرفتها تتم مسبقا بطريقة يختارها العقل. فإذا اخترنا أن نفكر بطريقة السببية فإننا سنعلم قبل أن نتعرف على أي موضوع أن الموضوع سيكون إما سببا أو نتيجة. وهذا يعني أن هناك مواضيع لا يمكن للعقل معرفتها عن طريق السببيه. و أحد أهم تلك المواضيع هو موضوع "أصل الكون". فعندما نتساءل عن أصل الكون، ونقوم بطرح فرضيات هنا وهناك، فإن العقل يدور في فراغ وفراغ وفراغ! لاحظ كانت أن العقل عندما يواجه مسائل أساسية، مثل موضوع بداية الكون، فإنه دائما ما ينتج فرضيتين متوقعتين تواجهان بعضهما. فيمكننا مثلا أن نؤكد أن الكون قد بدأ في يوما ما وأنه كان موجودا منذ الأزل!! والتوقعان غير قابلين للتخيل بالنسبة للعقل البشري. فيمكنك أن تؤكد أن العالم موجود منذ الأزل، لكن هل يمكن أن يكون شيئا ما موجودا منذ الأزل، ولا تكون له بداية في يوم من الأيام؟! حسننا اذن، لنأخذ الحجة بشكلها العكسي؛ فنقول ان للكون بداية في الزمن، وهذا يعني أنه ولد من العدم.. ولكن هل يمكن أن يولد شيئ من العدم؟! لذلك يكون العقل محكوم عليه بالاعدام في مثل هذه المسائل. ما قلته في الأسطر القليله السابقه يلخص آلاف التعليقات والتغريدات والفيديوات والهوشات في مواقع التواصل الاجتماعي! حسب كانت، كل مدرعم في التعليقات يقوم عقله بخداعه، ومن ثم تتوهم أن حجتك قوية منطقيه متماسكة.
لكن علينا أن ننتبه الى شيئ مهم هنا. لقد تكلم كانت عن الله وخلود النفس وبداية الكون كمواضيع يفشل العقل في حلها. في أيام كانت لم يكن هناك علم للكون. كان الكون محدود بحدود النجوم المرئية في سماء الليل. وبالمناسبة كان كانت أول من اقترح فكرة وجود مجرات اخرى، سماها الجزر الكونيه. وبطبيعة عقل الانسان الساعية وراء فهم سبب لكل شيئ، لم يتوقف الموضوع عند كانت، فدارت الأيام وبدأ العلم يأخذ مجراه حتى بداية القرن العشرين، حين حظيت البشرية بأكثر نظريتين ثوريتين، وهما النسبية وميكانيكا الكم. وبفضل هاتين النظريتين تطور علم الكون في عشرينات القرن العشرين، وصار يعرف باسم "علم الكونيات Cosmology".
منذ ما يقارب المئة عام ونحن نعلم أن الكون يتمدد. وهناك أدلة كثيرة على التمدد. الآن وببساطة اذا الكون يتمدد، فهذا يعني أنه كان أصغر وأصغر في ما مضى. كالبالونه تماما. لذلك لو رجعنا بالزمن الى الوراء لابد أن نصل الى نقطة بداية للكون، تحديدا قبل ١٣.٧ مليار سنة. ومن ثم تمددت هذه النقطة حتى اللحظة الحاضرة. هذه العملية تم تسميتها ب (نظرية الانفجار العظيم). وهي أكثر نظرية مقبولة اليوم لتفسير أصل الكون. كل شيئ يمكن لعقلك تخيله أتى من هذه النقطة، حتى الزمن نفسه أتى من هذه النقطة شديدة الحرارة والكثافة! والآن أصل الى موضوع هذه المقالة؛ من أين أتت هذه النقطة؟ هل كان هناك زمن قبلها؟ لاحظ أننا ما زلنا نتخيل أن لكل شيئ سبب، وأن هذه النقطة لابد أن يكون لها سبب. في هذه المقاله سأقوم بعرض بعض أهم الفرضيات الفيزيائية حول أصل الكون. لكن عليك أن تدرك أن جميع تلك الفرضيات قد تبدوا غريبة بعض الشيئ، ولا معنى لها بالنسبة لعقولنا المحدودة. وهذا شيئ طبيعي لأن أي اجابة حول اصل الكون لابد أن تأتي خارج اطار الزمان والمكان والحواس. سأحاول في هذه المقالة فتح العقل على مصراعيه، لذلك اجعل عقلك مفتوح دائما.
التقلبات الكمومية
في الحقيقة لقد كتبت مقالة كاملة حول موضوع التقلبات الكمومية، تجدها في نفس هذه المدونه، بعنوان (الرغوة الكمومية) فيها شرح لهذه الفكرة. وباختصار هي ظاهرة تبين أن الفراغ ليس فراغ. فمهما حاولت أن تزيل الذرات من علبة صغيرة جدا، ستظهر ذرات اخرى، أو جسيمات افتراضية باستمرار. وهذا مسموح حسب مبدأ هايزنبيرغ الارتيابي وقد تم التأكد منه تجريبيا بشكل غير مباشر. الآن اذا عكسنا موضوع تمدد الكون سنصل الى كون صغير جدا ثم اصغر ثم اصغر حتى يصل الى حجم الذرة. عندها لا تنفع نظرية آينشتين في الجاذبية، فنستبدلها بميكانيكا الكم. وهذا يعني أن الكون كان متقلب كموميا أم ينطبق عليه مبدأ هايزنبيرغ الارتيابي. وطالما هذه التقلبات تنتهك مبدأ حفظ الطاقة وتأتي من لا شيئ، فالكون الذي بحجم الذرة الآن ما هو الا تقلبات كمومية أتت من لاشيئ!
الأكوان المتعددة
أيضا قد كتبت مقالة للاكوان المتعددة، تجدها في المدونه هنا. هذه الفكرة تقول أن كوننا ليس الكون الوحيد. بل هو مجرد فقاعه من عدة فقاعات. تخيل الآن حدوث تصادم بين فقاعتين، من الممكن أن تنتج فقاعه أكبر، هذا هو الانفجار العظيم! مجرد تصادم فقاعتين! أو ربما انفصال فقاعة الى فقاعتين وحررت طاقه عاليه على شكل انفجار عظيم. الآن كوننا مجرد فقاعه في جسم ضخم يضم فقاعات عدة، اذن كوننا له بداية في الزمن، لكن تلك الفقاعات موجودة منذ الأزل.
نظرية هارتل - هوكينغ
اقترح كل من ستيفن هوكينغ و جيمس هارتل في بداية الثمانينات فكرة "عدم وجود حواف مكانية ولا زمانية عندما بدأ الكون". في الحقيقة عندما نعود الى الوراء في تمدد الكون، أي نعود بالزمان والمكان الى الوراء، سنصل الى حافة مدببة (الشكل ١). هذه الحافة تسمى (نقطة فردانية)، أي تنهار المعادلات الفيزيائية والرياضية عند هذه الحافة. وبالتالي نحتاج أن نسأل من أين أتت هذه الحافة. لذلك اقترح هوكينغ وهارتل أن هذه الحافة ليست حافة، بل تتخذ شكل مستدير كما في الشكل ٢. فعندما تعود الى الوراء محاولا معرفة سبب بداية الكون ستصل الى زمان - مكان دائري. لذلك عندما تسأل عن البداية الزمنية للكون، كأنك تسألك؛ ما هو شمال القطب الشمالي؟! لا شيئ، فقط ستعود الى الجنوب! عندما تتحرك بشكل مستقيم في الارض فإنك، بعد فترة زمنية، ستعود الى نقطة بدايتك، ستدور حول نفسك. الزمان والمكان حسب هذه الاطروحه مغلقين على نفسيهما. لذلك ليس للكون بداية معينه، وليس له شروط ابتدائية. ما حدث من ١٣.٨ مليار سنه هو فقط تمدد وليس بداية في الزمن. بالطبع لهذا النموذج الكثير من العيوب الرياضية والفكرية.
شكل ١: لاحظ وجود حافة للكون، وهذ
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق